
هل هناك فرص لعمل مشترك بين الإسلاميين والعلمانيين؟ كثيرا ما يظن تبسيطا أن مجرد
اشتراك قوم في منظور فكري عقدي كاف لتحويلهم تكتلا مصمتا في مواجهة أهل منظور
أيديولوجي آخر، وهو ظن خادع كما سنراه في العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين.
أولا: إذا كانت العلمانية علمانيات موزعة بين معتدلة جزئية وبين متشددة شاملة،
فموقف الإسلاميين منها سيختلف بحسب ذلك وبحسب نظرهم للإسلام، فهو لئن كان في
مصادره الأساسية: الكتاب والسنة واحدا، فإن منهاج التعامل معهما -في غياب كنيسة
تحتكر النطق باسمهما- سيختلف، فاختلفت بحسب ذلك مذاهب المسلمين ومدارسهم
وأحزابهم، اختلافا قد يبلغ من الشدة حد التكفير والتقاتل.
و يمكن بالإجمال تصنيفهم هم أيضا إلى متشدد حرفيّ الفهم منحجبا عن الواقع محتكرا
للحق، ومعتدل يميز بين ثوابت الدين -وهي قليلة- وبين مواطن الاجتهاد -وهي الأوسع-
فتبقى فسحة واسعة في إطار ثوابت الدين للاجتهاد ولنسبية الحق وللحرية وللاعتراف
بالاختلاف وللتعامل مع الواقع.
ثانيا: ومعنى ذلك أن التناقض المطلق بين الإسلاميين والعلمانيين لدرجة تعذر الحوار
بغير التنافي والتحارب أنما هو بين طرفي المعادلة. ولك أن تقول بين الأصوليتين:
العلمانية الشاملة المحاربة للدين، والأصولية الإسلامية المنكرة لحق الآخر.
وكل منهما عاجزة عن إدارة الاختلاف حضاريا، فهما أعجز عن الاعتراف بحق الاختلاف
وإدارته حضاريا خارج ساحتهما، فحيث حكمتا تحكّمتا.
فالعلمانية الشمولية كما تجلت في تجارب الحكم الشيوعي طبقت شعارها الأثير "لا حرية
لأعداء الحرية" متخذة من الإلحاد أيديولوجية ودينا وحيدا للدولة تفرضه طوعا وكرها،
فصودرت آلاف المساجد والكنائس وحظرت شعائر الدين.
ولا يزال خلفاء هذه العلمانيات الشمولية يضيقون ذرعا في فرنسا مثلا والبلاد المتأثرة
بإرثها اليعقوبي مثل تونس بأبسط الحريات الفردية مثل حق المسلمة في التعبير
بمظهرها عن ضميرها الديني، رهانا على دور الدولة في التنميط وفرض هوية فوقية
على السكان.
وليس ما اقترفه الأوروبيون من جرائم إبادة ضد السكان الأصليين للأميركيتين وتدمير
لثقافات الشعوب المستعمرة، والعراق من آخرها، سوى تعبير عن هذا المنزع الأصولي
الشمولي الحلولي المتعالي.
والهدف هو السيطرة وفرض النموذج وإشباع شهوة الاكتناز. الخيار المطروح على
المغلوب هو الخضوع والقبول بالسخرة أو الإبادة. وقد تمتزج في بوتقة هذا النموذج
الأصولي العلماني مكونات دينية مغلقة كما هو حال الاصوليات الإسرائيلية والأرثوذكسية
في البلقان والأميركية الإنجيلية البوشية "من ليس معي فهو مع الإرهاب".
وعلى الطرف الآخر تقف الأصولية الإسلامية تصادر حق المخالفين ولو في مجرد
الاجتهاد، عارضة عليهم الاستسلام ديانة أو سياسة بالخضوع لحكمها، وإلا فالإجهاز
عليهم.
أما القبول بالاختلاف باعتباره سنة إلهية كونية واجتماعية، فغير وارد حتى داخل
المنظومة ذاتها. والنموذج القياسي لهؤلاء فرق الخوارج الذين بلغ تشددهم حد القبول
بقدر من التسامح مع المخالف في الدين أما المخالف في الاجتهاد والفهم داخل الدين فلا
محل له، إذ الحقيقة لدى هؤلاء واحدة: ما هم عليه.
وما أسهل ما يرمى المخالف بالردة، وهو مفهوم ملتبس متردد بين المعنى العقدي بمعنى
الخروج من الدين بعد الدخول فيه وبين المعنى السياسي المتمثل في الخروج المسلح
على دولة العدل، من مثل ما حصل بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو ما كان
سبب توجيه للفقه وللكلام هذه الوجهة.
مع أن مبدأ حرية الاعتقاد الذي أقره الإسلام "لا إكراه في الدين" هو أصل ثابت، يقتضي
أن الحرية الأصلية التي وهبها الله تبارك وتعالى للإنسان في اعتناق هذا الدين أو رفضه
تقتضي احتفاظه بهذا الحق جزءا من مسؤوليته أمام خالقه وحده، باعتبار الاعتقاد من
أعمال القلوب التي لا شأن للدولة بها، فمجال عملها عالم الظاهر.
وفي عصرنا توفرت مناخات سياسية واجتماعية محلية ودولية منها التطرف العلماني
والديني الغربي في الحرب على الإسلام وأمته، ودعمه لاحتلال فلسطين وللاستبداد
المحلي شريكه في تخليق أجواء أسهمت في انبعاث مواريث أصولية الخوارج، فكان منها
طيف واسع من الجماعات الإسلامية المتشددة المكفرة للمخالف المستحلة لدمه وماله إذا
تيسر لها ذلك، من أبرزها جماعات القاعدة وطالبان.
فهذه الأخيرة لما حكمت لم يقف بأسها عند خصومها الشيوعيين، فأعدمت أسراهم بدم
بارد بل تجاوزتهم إلى تركيبات مذهبية وسياسية مثل الشيعة وأحزاب المجاهدين
استهدفتهم بالتصفية. ولا يخلو قطر من أقطار المسلمين من بعض امتدادات خارجية لا
تملك من سبيل للحوار مع الدولة ومع المجتمع والعالم، غير سبيل التكفير تشريعا
للتصفية إن قدرت.
ثالثا: ذلك هو منهاج الحوار المتّبع على طرفي الساحة الأصولية العلمانية والإسلامية.
أما منطقة الوسط، منطقة الاعتدال وهي الساحة الأوسع في كل منهما حيث تسود
العلمانية الجزئية باعتبارها أدوات إجرائية لتيسير إدارة الاختلاف وتخليص السياسة من
تسلط رجال الدين سلميا بما يحقق التعايش ويثريه، أو حيث يسود الإسلام في مجراه
الرئيس مؤسسا للإقرار بالحريات العامة والخاصة داخل المنظومة الإسلامية وخارجها..
على أساس "لا إكراه في الدين".
في كل من هاتين الساحتين العلمانية والإسلامية يتسع المجال نظريا وعمليا للقبول
بالآخر وللتعايش والحوار والتعاون معه.
وكما شهدت تجربة التطبيق الإسلامي في عمومها توفر مناخات تعايش في المجتمعات
الإسلامية بين طوائف المسلمين وبينهم وبين أهل الديانات الأخرى بما في ذلك الوثنيات
كالصابئة واليزيديين في العراق، فقد أمكن لأول مرة في التاريخ لأقليات إسلامية ويهودية
وغيرها أن تتمتع بأقدار معقولة من التعايش في المجتمعات الغربية المعاصرة خلافا لما
كان عليه الأمر طيلة العصور الوسطى.
رابعا: تجارب الحوار, ولو أننا ألقينا نظرة على تجارب الحوار الإسلامي العلماني
المعاصر في البلاد العربية والإسلامية -والحديث هنا عن أحزاب وتيارات الوسط العلماني
والإسلامي- لوضعنا أيدينا على كم من التجارب المشجعة.
ربما تعد تجربة الحوار بين الإخوان والشيوعيين في أقبية السجون المصرية من أولى
تلك التجارب، وذلك دون الرجوع إلى تجارب أسبق من مثل الحوارات التي دارت في
القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين والتي سجلتها دورية المنار
والرسالة مثلا.
وبصدد هذا الحوار الفردي بين إسلاميين وعلمانيين يمكن إدراج الحوار الذي دار بين
الشيخ القرضاوي وفؤاد زكريا أو الذي دار بينه وبين الماركسي جلال العظم. ويمكن
إدراج مؤلف الرد القوي لمحمد الطالبي على من دعاهم بالانسلاخيين في كتابه "لكي
يطمئن قلبي" ضمن هذه الحوارات الفردية بين رواد المدرستين.
و لقد أمكن لهذا الحوار أن يتجاوز المستوى النظري بحثا عن المشترك إلى مجالات
التنسيق والتعاون في المجالات العملية "وتعاونوا على البر والتقوى" وذلك على أساس
مواجهة الأخطار المحيقة بالأمة بكل توجهاتها من مثل مواجهة خطر الاستبداد الذي
اكتوى الجميع بنيرانه بما أسس للحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة أهدافا مشتركة
للنضال، وكذا مواجهة احتلال فلسطين والعراق، ومواجهة النهب المتفاقم للثروة العامة
من قبل نخبة الحكم، ومواجهة التجزئة ابتغاء التوحد الضروري للتنمية وللدفاع.
1- وكان من أهم الحوارات التي قادت إلى عمل مشترك بين الإسلاميين والعلمانيين ندوة
الحوار التي انعقدت في القاهرة بين التيارين القومي العلماني وبين التيار الإسلامي
وأفضى هذا الحوار إلى جملة من القناعات المشتركة مثلت أساسا متينا لقيام مؤسسة
المؤتمر القومي الإسلامي سنة 1994 في بيروت، وتوالت دورات انعقاده كما تداول
على رئاسته التياران.
ومن هذه المنظمات الجامعة لمختلف التيارات العربية الإسلامية والعلمانية منظمة
الأحزاب العربية، إلى جملة من مؤسسات المجتمع المدني مثل المنظمة العربية لحقوق
الإنسان واتحاد المحامين العرب واتحاد الأطباء العرب والصحفيين ..الخ.
2- ذلك على الصعيد العربي, أما على الصعيد القطري فلا يخلو قطر من تجارب حوار
علماني إسلامي أفضى إلى قيام مجالات عمل مشترك استشرف تخوم التحالف السياسي
أحيانا، وربما تعد تجربة اللقاء المشترك في اليمن أنضجها، فقد جمعت بين تيارات طالما
تحاورت بالسيف، الاشتراكيون والإخوان والناصريون والشيعة، وهم اليوم في "اللقاء
المشترك"جبهة معارضة، أقوى جبهة معارضة على الصعيد العربي.
وفي الأردن بدايات لعمل معارض مشترك بين مختلف الأحزاب العلمانية وبين الإخوان.
وفي مصر لا تزال الحركة السياسية تعاني ضعفا شديدا بسبب عجز التيارين عن العمل
المشترك، فخبا وهج كفاية، بينما على الصعيد النقابي حصلت تحالفات.
أما في المغرب العربي فتجارب العمل المشترك لا تزال أيضا محدودة رغم وجود سوابق
في تونس منذ نهاية الثمانينيات، وتجسدت منذ بضع سنوات في هيئة دعيت حركة
18 أكتوبر/ تشرين الأول للدفاع عن الحريات جمعت طيفا معارضا واسعا (إسلاميين
وشيوعيين وليبراليين وقوميين واشتراكيين...) على أساس مبادئ بسيطة: الدفاع عن
حرية التعبير والتنظيم وإطلاق سراح المساجين. ظلت متعثرة بسبب قمع السلطة وبسبب
إصرار البعض على الزج بمحاور وخلافات أيديولوجية.
وفي الجزائر على إثر انقلاب دام 1992 أطاح ببدايات واعدة للتحول الديمقراطي قامت
ندوة للحوار 1996 احتضنتها منظمة إيطالية جمعت طيفا واسعا من الإسلاميين
والعلمانيين، إلا أنها لم تعمر طويلا بسبب تخاذل البعض, غير أن ندوة مشابهة لها بعض
الشيء انعقدت الأيام الأخيرة في جنيف تحت شعار التغيير السياسي في الجزائر.
وفي المغرب هناك بدايات حوار بين العدوين اللدودين علمانيي الحزب الاشتراكي
وإسلاميي العدالة والتنمية، قد تفضي إلى تحول مهم جدا.
3- من جهة أخرى يمكن اعتبار تجارب الحوار والتعاون بين التيارين أوسع وأثرى في
البلاد الإسلامية غير العربية مثل تركيا حيث قامت أكثر من حكومة جامعة بين علمانيين
وإسلاميين وبلغ الأمر حد التداخل: إسلاميون يستقطبون إلى حزبهم علمانيين ونساء
غير متحجبات، وعلمانيون يستقطبون إلى حزبهم إسلاميين منهم نساء متحجبات. وفي
باكستان وبنغلاديش وأندونيسيا.. تجارب من العمل السياسي المشترك على صعيدي
الحكم والمعارضة.
مما سبق يمكن أن نسجل تلك الاستنتاجات:1- يبدو اتجاه واضح لتنامي القناعة بضرورة
التواصل والحوار بين كل التيارات بحثا عن العمل المشترك، وأن الحرية يمكن أن تكون
للجميع.
2- لم يثبت التشدد الأصولي علمانيا كان أم إسلاميا قابلية للبناء، عندما توفرت له
فرصة التمكن من أجهزة الدولة. فقدراته على الهدم أعظم. قد يحرر أوطانا من الاحتلال
أو يطيح بدكتاتوريات ولكنه سرعان ما يطفئ الأحلام ويشيع الإحباط لدرجة التندّم على
التضحيات المهدورة.
ذلك ما أورثه التشدد العلماني في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وروسيا الشيوعية، وما
استلهم منها في مصر وتونس والجزائر وفي أفغانستان الطالبانية.
والسبب عجز التشدد عن التعامل مع سنة الله في الاختلاف. ليس من واحد أحد إلا الذي
في السماء. أما كل ما في الأرض فمختلف ومتعدد. وما التحضر في وجه من وجوهه
البارزة سوى الاعتراف بالاختلاف والقدرة على إدارته حضاريا توصلا إلى وحدة نسبية
يسهم الجميع في إثرائها.
كذا كانت قرطبة وبغداد وشيراز وسراييفو، كما هي اليوم ستوكهولم ودبلن ولندن. معنى
ذلك أن التشدد لا يأتي بخير ولا ترجى منه غير الكوارث مهما بدا الأمر خلاف ذلك.
3- خطير تحويل العلمانية كما نشأت في بيئتها الأصلية: تسويات وترتيبات لتحرير
الدولة من هيمنة رجال الدين، إلى دين يسعى لتصفية الديانات. ولدفع الالتباس اقترح
بعض المفكرين الاستغناء عن هذا المسمى الملتبس بمصطلح العقلانية. ومن الخطر
كذلك
تحويل الدين من كونه هداية وعامل توحيد إلى كونه عامل تحارب وتمزق.
4- الاختلاف بين البشر فرع عن حريتهم . وبسبب حاجتهم للاجتماع توجّب عليهم
البحث عن وفاقات، تقف الأصولية علمانية كانت أم دينية عقبة في طريقها. وتمثل
آليات
الديمقراطية أفضل الإجراءات المتاحة لإدارة الاختلاف.
5- الأنظمة العربية قد استهلكت شرعيتها إن كانت لها شرعية يوما، وباءت بالفشل
محاولات إصلاحها، فلا مناص لها من تغيير. الإسلاميون هم الطرف الأهم المرشح لدفع
ثمنه، ولكن جملة الموازين الدولية وتجارب التغيير التي حصلت العقدين الماضيين
شهدت أن قيادة التغيير تحتاج تأسيس جبهات تقوده، من أجل بناء نظام ديمقراطي
حقيقي.
6-مطلوب من الإسلاميين أن يطمئنوا العلمانيين أن الإسلام لن ينتقص من حقوقهم
وحرياتهم الفردية والجماعية. ومطلوب من العلمانيين أن يعترفوا بخصوصية هذه الأمة
في علاقتها بالإسلام، فيكفّوا عن محاولة تجاهله أو تفكيكه، منشدّين إلى النموذج
الديمقراطي الغربي في علاقته بالدين، كما تفعل نخبة حداثاوية في المغرب العربي
ومصر، فكانت إلى جانب الأصولية الإسلامية عائقا أمام العمل الجبهوي بينما تقدم في
اليمن، بسبب ارتضاء الجميع الإسلام أرضية مشتركة، فلم ينشغلوا بالجدل الأيديولوجي،
واتجهوا مجتمعين لمواجهة الاستبداد.. محشّدين الجماهير وراء هذا الهدف وبناء نموذج
مجتمعي على أساس المواطنة.
7- منذ السبعينيات واليسار يتحدث عن جبهة يسارية أو علمانية ولمّا يتحقق شيء من
ذلك. كما فشلت محاولات اللقاء بين تيارات الوسط الإسلامي وبين تيارات التشدد السلفي
أو التحريري، بينما تنامت الأعمال المشتركة بين قوى الاعتدال العلماني والإسلامي.
وأخيرا يبدو أن عصر ما بعد العلمانية آخذ في التشكل. وأن الإسلام بصدد عودته القوية
إلى قلب معركة التاريخ مسترجعا ما فقد من أبنائه وقواه، ليسهم بفعالية في صنع
الحضارة وصيانتها وفي عودة الأمل في سلام عالمي يقوم على العدل.
منقول عن مقالة للرائع دائما راشد الغنوشي..